محمد صلاح.. قراءات ما وراء الأيقونة

كُتب هذا المقال في 2018 -عندما كان حقًا أيقونة-

“الواد صلاح ده مصروف له”
هي الكلمة التي خرجت من فم أحد عواجيز المقهى بلا تفكير فور إعلان اسم صلاح فائزًا بجائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي، كانت هي الكلمة الأكثر شمولًا، وكان تعبير (الصرف) هذا الممزوج بالعطايا الإلهية رمزًا لكل ما حققه ويحققه صلاح، الكثير والكثير من الخبايا والحكايا وراء الأيقونة الأجمل، ويستمر الصرف.

دائمًا ما يميل العقل البشري إلى الحكايات الأخاذة عن عظماء نشأوا في فقر ثم غيروا مجرى التاريخ، نسمع عن إديسون لا يكمل تعليمه بسبب الفقر ثم تغمر مخترعاته العالم فننبهر، ونقرأ عن ابراهام لينكولن يتزاحم مع إخوته في كوخ خشبي صغير على حافة الغابة ثم يصبح بعدها رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية فتؤسر قلوبنا، حياة تتلون بألوان مزهرة كلما سمعنا عن ملياردير كان يعمل عتالًا أو رئيس كان أبوه موظف بريد لتلمع الأعين أكثر.

عند عامة الناس كلها حكايات مغلفة بغلاف الانبهار المصحوب بالاستحالة –خصوصًا في مصر- حتى رأى الجميع محمد صلاح لتتبدل الاستحالات بـ (ممكن).

البداية دائمًا هي النشأة والخطوات الأولى التي يكتسب من خلالها أي فرد مخزونه الخاص الذي يؤهله فيما بعد، هذه النشأة التي تتضح آثارها إما من خلال البيئة وما تضفيه على الناشئ بها من قواعد أساسية وخطوط عريضة لطبيعته وإما من خلال التعليم، وأثر التعليم الواضح ليس بما تدرسه، بل بكونك تدرس أصلًا، عملية الانغماس في التعليم التي كلما زادت كلما تفتحت آفاق أوسع، كلما أنيرت في رأسك ومضات أكثر، هو جمال السعي نحو المعرفة، لذا ففكرة التعلم في حد ذاتها هي ضرورة حتى لمن تعتمد أعمالهم على موهبة، ضرورة للرسام، للممثل، للمطرب، حتى للاعب الكرة.

محمد صلاح هذا النموذج الآسر تخرج من ثانوية صناعية بمجموع 52% ثم احترف ولم يكمل بعدها، وما حدث أن خرج بهذا القدر الضئيل من التعليم الأكاديمي ونجح نجاحًا مبهِرًا متأقلمًا وسط مجتمعات ومنظومات عالمية أسس التعليم هي دربها ونورها، هي الفطرة!

النجاح واضح يراه الجميع بل ويعرفون الطريق إليه جيدًا، طريق ينيره منهج علمي يحتم طريقة كاملة في التفكير والحياة، كل ما في الأمر كيف تصل لهذا الطريق، وصلاح وصل إليه بهذه الفطرة السليمة ومن ثم بدأت الرحلة، هي الفطرة التي جعلت محمد صلاح قادرًا على الحياة وسط مجتمعات مختلفة مع تأقلم تام في كلٍ منها، تأمره حتى بدون أن يشعر هو للانسياق الطبيعي في هذا الطريق العلمي، والانصياع مع قواعده التي تمليها عليه فطرته كما تمليها التعاليم الأكاديمية على صاحبها، إذ ليس ضروريًا أن يكون نموذج النجاح هو نموذج زويلي يجمع الشهادات من جامعات أمريكا، بل يمكن أن يكون نموذج صلاحي متفرد يجمع النضج وحسن التصرف من الفطرة التي لا تحويها جامعات.

الفطرة التي يتشبع بها محمد صلاح هي تلك التي تنغزه دوما للثبات على قناعات لن يغيرها مهما تبدلت الحياة من حوله، فطرة تملي عليه الشروط؛ لن تنجح إلا إذا كنت بارًا بأهلك، لن تنجح إلا إذا وهبت –كل- حياتك للكرة، لن تنجح إلا إذا كنت هادئًا دائمًا وأبدًا، لن تنجح إلا إذا كنت متواضعًا، مجموعة متلاحقة من البنود تشعر وكأن الجميع يعرفها وبالفعل الجميع يعرفها ولكن كم هم القادرون على الثبات عليها بدوام لا ينقطع؟

ذكر صلاح في تصريحات له غير مرة عن أسباب رجوع الكثير من اللاعبين المصريين من الاحتراف وعدم استكمال المهمة بسبب الحنين الدائم إلى الوطن والرغبة في الشهرة السهلة التي ينعم بها النجم في مصر وضمان حياة سهلة بأموال وسيارة وبنات جميلات وكأنما ملك الدنيا وما فيها.

قناعات صلاح المكتملة تفرض دائمًا عليه جوانب أكثر من العناء، وترمي أمام عينيه الشواهد ليستبين منها ويزداد إيمانًا بقناعاته، فيرى نماذج مصرية بدأت حياتها الكروية في أوج التألق ثم مع استمرار التخاذل ذهبت أدراج النسيان، ويرى نماذج لمن خرجوا للاحتراف الخارجي وعادوا لأسباب عاطفية بالتأكيد لا تتناسب مع مقدار ما يطمح له صلاح، ويرى نماذج أخرى أفنت حياتها باجتهاد فنالت ما كانت تصبو وأكثر، أو بلغة إحدى قناعات صلاح؛ كلما أخلصت للكرة تمنحك ما تستحق.

أدرك صلاح بفطرته تلك أنه سلعة في هذا السوق العالمي، سلعة يتحدد سعرها زيادة ونقصان وفقًا لاجتهاده وابتعاده أكثر عن مهاترات من هم خارج السوق، شاهد السوق المصري الذي يغمره الباعة الجائلون يتحكمون بأسعاره وتعلو فوقه أصوات الفوضي في التقييم والتسعير وأدرك أن هذا لا يستقيم، أدار وجهه لرواد السوق الحقيقيين الذين يرتادون السوق فقط من أجل هذه السلعة ولا شىء غيرها، إن كانت جيدة بل وأفضل في كل مرة يزورون السوق عن سابقتها فأجمِل بها سلعة وهلّا بها في كل وقت وحين، وإن أدركوا ما بها من (كروتة) فلا عزاء لها ولن يهتموا من الأساس أين هي وكيف نحاول تحسينها، فإما الإقبال وإما النسيان وهكذا سمت الأسواق.

هي الفطرة السليمة التي تجعل صلاح في عالم موازٍ آخر كان سيحيا حياته شيخًا لقبيلة تعلو محياه علامات الهدى والنور يجلس بين الناس وكلما تحدث قذف من فمه الحكمة تلو الأخرى، صلاح كان النموج المنتظر لزيادة التأكيد عن هوية الجاهل؛ الجاهل هو من احتار الوصول لطريق المنهج الصائب في التفكير والحياة فعلق في المنتصف، لم يطله من التعليم الأكاديمي بمعرفته ولم يذقه من الفطرة بحكمتها.

الفطرة والعولمة.. من ينتصر؟

هذه الجدلية التي تخلقها العولمة حين تظهر طرفًا في أي صراع  ومن يستطيع (قولبة) الآخر داخله، والحقيقة أن العولمة هي القالب الأكبر الذي تمكن ويتمكن وسيتمكن من إذابة أي عامل آخر فيه، حتى الفطرة السليمة التي تسمو بما نشعر فيها من منح إلهية وقدرات عالية على التصرف خارج أي صندوق تذوب هي الأخرى وتتطبع بطباع العولمة حتى وإن أظهرت عكس ذلك في بعض الأحيان، ستظل الفطرة تفعل ما يحلو لها لكن في فلك العولمة لا تحيد عنه.

في 2013 وحين كان محمد صلاح محترفًا في فريق بازل السويسري كان عليه لعب مباراة في الدوري الأوروبي مع فريق (مكابي تل أبيب)، وفي مباراة الذهاب في سويسرا وأثناء مصافحة الفريقين تحايل صلاح بحجة أنه يربط حذاء حتى لا يصافح لا عبي مكابي تل أبيب، وانهالت عليه بعد ذلك آيات المدح والذم ممن رأوه بطلًا قوميًا وومن رأوه شابًا مراهقًا لم يدرك بعد مقدار فلك العولمة الذي يجب أن يبقى في مداره إن أراد الاستمرار، لذا كان الاختبار الأصعب هو مباراة الإياب في إسرائيل.

كان عليه أن يذهب إلى إسرائيل ويصافح اللاعبين ويلعب بشكل اعتيادي كما يلعب ضد أي فريق في ملعبه، وتعالت الصيحات في مصر إذ كيف سيذهب وبالتأكيد لن يذهب ولو ذهب عليه ألا يصافحهم وألا يبتسم في أوجههم وغمر الإعلام حينها أجواء من لا تصالح ولو منحوك الذهب، لكن ما حدث أن ذهب صلاح إلى إسرائيل متشبعا بهذه الأجواء التي حتى فطرته تفرض عليه بعضًا منها، حاول التوفيق بين الفطرة والعولمة، فأثناء مصافحة الفريقين مد صلاح للاعبي مكابي تل أبيب قبضة يده ممررا إياها بسرعة عليهم بدلًا من المصافحة بيد مبسوطة، بدأت المباراة وصافرات استهجان على صلاح كلما لمس الكرة، تتزايد وتتزايد ثم بعد 20 دقيقة بالتمام والكمال يحرز صلاح هدفًا، هدوء تام من المدرجات وصلاح يكمل ويشير لهم بالسكوت ثم يسجد شاكرًا الله على الهدف كما عادته، انتهت المباراة وبدأت المزايدات أكثر حيث من تبنوا أن سجدة صلاح هذه طعنة في صدر العدو الصهيوني، ومن زايد وتمنى لو كان صلاح يرتدي تيشرتًا مكتوبًا عليه “القدس لنا” أو حتى ” الله أكبر”. صلاح صاحب العشرين عاما حينها وفق بين فطرته وعولمة هذا العصر ضاربًا عرض الحائط بكل أفكار هؤلاء المراهقين حتى ولو كانوا في الأربعين والخمسين من عمرهم.

وفي الأوقات الآنية وصلاح صار ضيفًا معتادًا على منصات التكريم مازال يُخيل إلى كثير أفعال المراهقة تلك، ومازال صلاح يخبر الجميع بأنه أنضج من كل هذا، قد يُخيل إلى البعض غير مرة أن صلاح في إحدى تكريماته العالمية هذه سيتسلم جائزته ثم سيستأذن الحضور بإلقاء كلمته باللغة العربية تكريما لها ولبلده، لكن هذا لا يحدث، صلاح يصعد الآن ويتسلم جوائزه ثم يلقي بالإنجليزية كلمات مقتضبة مفادها الشكر لأهله ومدربه وزملائه متمنيًا المزيد من النجاح وانتهى الأمر. لا يفكر مطلقًا بهذه الأفكار الجذابة التي تخطر ببال جموع المصريين عن شكره لـمدربه في مركز الشباب وتقديره لعم صابر موظف الأمن في نادي المقاولون.

صلاح المؤمن بكل هذه الأمور مثله في ذلك كمثل كل أهله وأقرانه استجاب لنداء العولمة وما يمليه من شروط تغطي كافة مناحي الحياة، إذ كيف تتحدث ومتي تتحدث وكيف تظهر لعامة الناس ومتى تقرر الاختفاء قليلًا وكيف تقضي ساعات عملك وكيف تقضي إجازاتك وكيف تحافظ على محبيك وكيف تتعامل مع كارهيك، اكتسب سريعًا قدرة فائقة على التحكم تمامًا في تصرفاته وأفعاله وترتيبها في مساراتها الطبيعية التي لا تخلع عنه لباس فطرته السليمة وتضعه في ذات الوقت رأسًا برأس كباقي نجوم اللعبة من الفئة العليا، فتشعر في أحاديثم كلهم وكأنما قد نشأوا جميعًا في نفس المدينة تحت نفس الظروف مع نفس الأهل، وتلك فضيلة العولمة.

عشرات المقاهي صار رزقها هو يوم ماتش صلاح، رجال كبار وصغار لم يكن لهم عهد بالكرة صاروا كما المؤرخين الرياضيين لتاريخ ماتشات صلاح، البنات والنساء يجلسن بكل شغف انتظارا لانتفاضة فرحة بهدف صلاح، مشاهد في الوضع الطبيعي تعد استثناءً أصبحت هي العادي، العادي جدًا.

هذا التأثير (الصلاحي) بامتياز يستشري بلا توقف ليفتح آفاق التفكير بشكل أوسع، أو إن شئت قل آفاق تهدم كل الكليشيهات بأن الكرة زادت أو نقصت فهي لعبة، وأنها لا ترتفع عن مكانتها كوسيلة ترفيه، وفي أوساط أكثر دراية تستخدم كليشيهات أشد بأن الكرة أفيونة الشعوب وأنها أداة السلطة في الإلهاء.

هو الاتجاه الذي يقر به البعض بالتقليل من مهن الترفيه عمومًا، مهن كلاعب الكرة أو الممثل أو المغني هي في نظر البعض تسالي لا أكثر، وبالطبع فالمهندس والدكتور والمحامي أكبر تأثيرًا في المجتمعات من هؤلاء (المسلواتية)، فالمجتمع يقدر من يبنيه ومن يعالجه وأضف لزيادة التعاطف أنهم يهانون في أعمالهم أما هؤلاء (المسلواتية) يحصدون المال بلا حدٍ أو ربط. دعني أوفيك ببعض السرديات.

من عامين تحديدا في 2016 أعلنت توزيع جوائز نوبل للآداب بفوز المغني الأمريكي بوب ديلان بالجائزة، نوبل الجائزة الأرفع في عالم الأدب والتي توالى عليها عظام الأدباء كنيرودا وبيرانديلو ونجيب محفوظ وماركيز يحصل عليها مغني! ليس روائيا ولا كاتبًا مسرحيًا ولا قاصًا قد تُرجمت قصصه لعشرات اللغات، هو مغني يمسك جيتار في يده، يكتب كلمات ويلحنها ويغنيها، مثله في ذلك كآخرين في مختلف البلاد حتى هو نفسه في رسالته إلى لجنة نوبل أخبرهم بهذا: ما العلاقة بين أغانيّ والأدب؟. الأمر واضحٌ جلي بإيمان تام بقوة التأثير الحقيقي لهذا الترفيه أكثر من غيره من الفنون التي يحولها كُتابها بمرور الزمن لكتابات نخبوية معقدة؛ حتى وإن كان هو نفسه لا يرى فيما يقدمه نفس القدر من العِظم.

في الستينات وقبل ظهور فكرة التسويق بكرة القدم وحين كان معظم ممارسي اللعبة يلعبون هواية لا امتهان كان رئيس البرازيل يعلنها: يكفي أن لدينا ثروة قومية اسمها “بيليه”. وفي مونديال 1970 تتعاقد شركة بوما مع بيليه بعقد قيمته 120 ألف دولار مقابل الترويج لحذائها الجديد، وقبل ركلة بداية مباراة البرازيل وبيرو بلحظات يستأذن بيليه حكم المباراة أن يربط حذاءه لتقطع الصورة حينها على بيليه يربط الحذاء الذي تتوسطه علامة بوما الشهيرة؛ وتسجل الشركة أرباحًا بزيادة 300% عما كانت تحققه قبل المونديال.

مجلة (التايم) الأمريكية تصدر قائمة سنوية بالمائة شخص الأكثر تأثيرًا في العالم في كل عام، هذه القائمة في السنين الأخيرة صار لاعبو الكرة ضيوفًا معتادين عليها، وأصبح أمرًا طبيعيًا وجود اسم ليونيل ميسي بصحبة أنجيلا ميركل وهيلاري كلينتون وبوتين ولا تبدي حيال ذلك أي استغراب.

هي حقائق لا تحتمل الجدال؛ محمد صلاح (لاعب الكرة) بنفحة كروية منه يرسم البسمة على شفاه الملايين وبصرخة ألم واحدة منه تُعتصر قلوب الملايين، محمد صلاح (لاعب الكرة) ساهم عند مشاركته في حملة لمكافحة إدمان المخدرات بزيادة المكالمات على الخط الساخن للحملة بنسبة 400%، محمد صلاح (لاعب الكرة) هو الذي كانت تدور بسبب صورته كمادة إعلانية في الأيام الماضية مشكلات ومناقشات بمئات الملايين، محمد صلاح (لاعب الكرة) هو الأوسع تأثيرًا في المجتمع المصري الحالي وبمسافة شاسعة عن أي شخصية مصرية أخرى.

ومراحل التحول الثلاث من شخص عادي إلى شخص ناجح ثم إلى أيقونة تتطلب تغيرات وتأثيرات مصاحبة لكل مرحلة تتطور وتزداد وفقًا للظروف وطبيعة المجتمع، تأثيرات تعبر مجرد حب الناس وتصل لتأثيرات اجتماعية واقتصادية، وقد تصل هذه التأثيرات لجوانب سياسية أحيانًا بل ومشاركة لها مفعولها في صنع قرار سياسي لبلد بالكامل.

في الدائرة الأفريقية التي ينتمي إليها صلاح ومع كل خطوة يخطوها للأمام يتبادر إلى الذهن النموذج الأفريقي الأكثر نجاحا جورج وايا، نفس البدايات المشابهة من اللعب في شوارع ليبيريا ثم الانتقال لنادي هواة ثم نادي صغير ثم نادي أكبر ثم الانخراط في رحلة الاحتراف والوثب فيها عاليا، يرتحل فيها جورج وايا من موناكو إلى باريس سان جيرمان إلى ميلان ثم يأتي عام 1995 ليفوز بجائزة أفضل لاعب في العالم كالأفريقي الوحيد الذي حقق الإنجاز، هي المراحل الثلاث من شخص عادي إلى شخص ناجح ثم إلى أيقونة، أيقونة رياضية جعلت أفريقيا السمراء كلها ترى فيها ما هو أكبر من ذلك، عزيزي القارئ إليك الخبر التالي: في 26 ديسمبر 2017 تم انتخاب جورج وايا رئيسًا لدولة ليبيريا.

عندما قاد ديديه دروجبا منتخب بلاده على عاتقه للوصول إلى كأس العالم 2006 اتخدته ساحل العاج بأسرها بطلًا قوميا يلبي نداء الواجب وتُلبيه الجماهير لو خطر بباله فقط أن ينادي ردًا لهذا الواجب، فيدعو دروجبا في بيان يوقع عليه لاعبو المنتخب بالكامل أهل الشمال والجنوب لتصفية النزاعات ووضع أوزار الحرب الأهلية وأن يتركوا الاحتفال يوحد الجميع، كانت رسالة صادقة استجاب لها زعيما الشمال والجنوب وأقيمت مباراة ودية في الشمال حضراها معًا لتبدأ بعدها محادثات السلام وتقام انتخابات موحدة بالفعل في 2010.

لا يمكن الجزم بمدى صلاحية قياس هذه النماذج على محمد صلاح، أو حتى وضع ملامح عن تحديد علاقة صلاح بأي قرار سياسي في مصر بعد عددٍ ما من السنين؛ خصوصًا اختلاف مصر عن معظم دول أفريقيا السمراء التي تعتريها حروب أهلية، ونقص في دارسي السياسة والاقتصاد مما يتيح المجال أكثر لأي نموذج ناجح في مجال آخر بدخول معترك السياسة من الباب الكبير، لكن ما يمكن الجزم به بمطلق الثقة هي المكانة التي خلقها محمد صلاح لنفسه –حتى وإن لم يكن متعمدًا-  ليبقى ممن سيشار عليهم وإليهم في أي حدث سياسي قادم، قد لا يشارك بصورة مباشرة في اتخاذ قرارات إن عزف هو عن ذلك لكن لن يقدر أن يمحو من أصحاب القرار محاولاتهم المضنية لجذبه إليهم، للانضمام لصفوف كل منهم بل وجعله هو شخصيًا درجة صراع في سلم صراع المشكلة الأساسية.

الرائع أن صلاح تعرض لمحاولات الانجذاب السياسية تلك من لحظات بزوغ نجمه الأولى، ومع ذلك لم يبدِ أي إشارات لانحيازات بعينها فهو صلاح الذي لا ينتمي لأحزاب، يتخير ألفاظه بعناية عند سؤاله أي سؤال قد يحمل جانبًا سياسيًا صغيرًا، لا يبارز باقي نجوم الكرة بتصريحات نارية، لا يعلن حتى في مصر إن كان أهلاوي أو زملكاوي، بل استمر في تبني النشاطات العامة الشاملة التي تحافظ عليه في صورة صلاح نجم الجميع، صلاح يقدر جيدًا دوره الوحيد في الحياة كلاعب كرة قدم ويثمنه ويتحرك في إطاره لا يحيد عنه ولا يحاول أن يستدعي لنفسه دورًا ليس من شأنه فقط لإرضاء شهوة الظهور كغيره من نجوم الكرة المصريين، مرة أخرى يُخرِج صلاح من القناعات المكتملة التي يخزنها دائمًا معه قناعة سأبقى صلاح لاعب الكرة ولا غير ذلك، يرتوي منها كلما شعر بإمكانية التغيير.

 ومما يثير التعجب كذلك أن هذا التفنيد والشرح بأكلمه يدور حول محور شاب مصري في الخامسة والعشرين من عمره، أمر لم تعهده مصر تمامًا، أن تجد شابًا صغيرًا لكلمة واحدة منه قوة تأثير على مزاج العوام تتعدى أساطين وأكابر البلاد هو أمر غير مستساغ بل وغريب على تابوهات الثقافة المصرية، حتى صار جليًا أنه منذ عبد الناصر في شبابه لم يأتِ شاب مصري له تأثير صلاح على المجتمع المصري، صلاح لا يتوقف عن الهدم، معتقدات وموروثات كل يوم يطالها معول صلاح، والأجمل أنه لا يقصد كل هذا!

صلاح يمنحنا أكبر هبة تجعلنا نتمسك به في حياتنا، علاقة قائمة على المصلحة الصريحة، الوجبة الشبه أسبوعية بالسعادة المجردة التي صارت ضرورة حياة لتمنحنا قوة البقاء حتى الأسبوع التالي، لهذا فحب جموع المصريين لصلاح تعدى فكرة حب لاعب الكرة وصار حبًا احتياج أكثر شمولًا كما يقول محمود درويش:

أحبك حب القوافل واحة عشبٍ وماء
وحب الفقير الرغيف!

وبعد الثبات في مرحلة الأيقونة وبمرور الوقت فيها تبدأ رويدًا رويدًا تتحول الأيقونة إلى ما يشبه أفلام السوبر هيرو، البطل الذي تشعر به من غير طينة البشر يفعل ما لا يقدرون هم عليه، ودومًا يفعله لأغراض أسمى مما في رأسهم، وصلاح هو هذا البطل الذي يلقي عليه جموع المصريين باختلاف الأطياف حمل إسعادهم كلما ضاقت الدنيا، لكنه النوع الأفضل من الأبطال؛ هو هذا البطل الذي حين تراه أو تتحسس خطاه ترى إمكانية تكراره، ترى باب الـ (ليه لأ؟)، ترى كما الجميع بأن ما يفعله خارقًا للطبيعة أما صلاح نفسه فهو ليس خارقًا، صلاح (شبهنا)، صلاح (زيه زينا) وهذا كل ما في الأمر.

بدايات صلاح عادية وتشبه كثير من القصص التي تحتمل كل شيء، قد تنتهي بأبطال خارقين أو بمن مروا في الدنيا كأن لم يمروا، لكنها أسباب النجاح التي يسوقها القدر في الدروب المناسبة، حين بدأ صلاح مشواره الكروي في المقاولون العرب كنادي غير جماهيري فأتاح له حياة هادئة بعيدة عن تصنيفات مراهقي التشجيع الكروي، وبعدها يخرج صلاح من مصر في سن صغير فلا يلحق مراحل اكتمال النجومية الكاذبة التي تبدأ دائمًا كما تنتهي في نفس المكان، يهجر أوبئة الشهرة وعدوى الأضواء ثم يقرر هو بمحض إرادته أن يسلم نفسه لقناعاته التي لا تخذله أينما حل وارتحل.

بطولة صلاح تكمن في سلك المسار الطبيعي للنجاح، مسار الموهبة والاجتهاد والصبر والمثابرة مع البهارات الجميلة للالتزام والأخلاق، مسارات بعيدة كل البعد عن أي شطحات غير اعتيادية، ليس ممن ولدوا في بيت ثراء يسمح للابن بممارسة الكرة في أفضل النوادي منذ الصغر، وليس ممن ينتهزون الفرص لاستجداء الناس عن مدى المعاناة في النشأة والفقر، وليس ممن يخرجون في الإعلام دوريًا لإطلاق تصريحات غريبة حتى في أمور لا تخصه لمجرد أن يستمر ضيفًا دائمًا على موائد الإعلام وجلسات الثرثرة الليلية، وليس ممن يتعمدون ملابس وقصات شعر وأفعال غريبة تحت بنود الحرية الشخصية، وليس ممن قالوا “لا” في وجه من قالوا “نعم”، صلاح ليس كل هذا، صلاح هو الطبيعي الذي سار بمسار طبيعي فحقق ما ليس طبيعيا ليترك السؤال يجول في أذهاننا: ليه لأ؟

في فيلم (العالمي) الذي تناول فكرة اللاعب المصري المحترف وحاول عرضها بشكل سينمائي فيه التدرج الطبيعي من الشارع للنادي للشهرة  وفي مشهد كان يحاول فيه كابتن شيكو إقناع عم أحمد بأن يترك مالك ابنه يسلك مسار الكرة في الحياة فحاول إغرائه بأقصى ما شطح إليه خياله حينها قائلًا: “ومين عارف مش يمكن ربنا يكرمه ويبقى نجم عالمي كده زي الكابتن هاني رمزي ويحترف بره”.

في زمن تحولت فيه الكلمة لكلمة مبتذلة، مستهلكة، فاقدة لمعناها، استطاع صلاح _منفردًا- أن ينفخ الروح من جديد في كلمة (معجزة).




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *