
كثيرة هي تلك القصص الكروية التي تتحدث عن الوفاء، تستدرجك رويدًا رويدًا لتهز وتر الحنين والانتماء لديك وتدغدغ مشاعر الحياة السيئة من تكالب وطمع لتصل بك إلى إيفوريا الحق والخير والجمال؛ وأعتقد قصة دي ليفيو شبيهة بتلك القصص إلا أنه يمكنك من ورائها استخراج بعض القيم الزائدة.
باختصار لأن الهدف ما وراء الحكاية فهو (أنجيلو دي ليفيو) لاعب كرة قدم إيطالي مولود عام 1966 بدأ مسيرته في نادي روما وما إن وصل إلى مراحل اللعب الأساسي لم يجد لنفسه مكانًا أساسيًا فآثر الانتقال إلى أندية أقل لخوض الرحلة كما المعتاد، تنقل بين الأندية في الدرجات الأقل ريجيانا ونوسرينا وبيروجيا ثم حط الرحال في بادوفا في دوري الدرجة الثانية الذي استمر فيه أربع سنوات كانت البداية الحقيقة في تشكيل شخصيته كإنسان قبل أن يكون لاعب كرة قدم محترف وهذا ما يقوله هو نفسه عن هذه الفترة: “تلك البطولات في الدرجة الثانية هي التي تشكلك، فهم يدربونك، يزيدون من حدتك، ويعطونك الكثير من الشخصية والرغبة في القتال”.
تطور دي ليفيو وأثبت استمرارية وقوة جعلت بييرا أجادي المدير الرياضي ليوفنتوس يؤمن بهذا الشاب ويسعى للتعاقد معه، يصل دي ليفيو إلى تورينو وكان حينها يدرب يوفنتوس المخضرم تارباتوني الذي يظهر في حياة دي ليفيو بدور الأب الصارم والحنون في نفس الوقت؛ يجلس معه ويخبره بأنه هنا في مكان احترافي كل من فيه يعرف بالضبط واجباته وما يحسن القيام به ونحن نعلم يا أنجيلو ما تجيده فقط افعله بتأني وبدون توتر، ثم في ليلة مباراة روما في الأوليمبيكو يقتحم تارباتوني غرفة الفندق على دي ليفيو ويخبره بأنه سيلعب به غدًا في الأوليمبكو وعليه أن يثبت لنفسه ولأحبائه بأنه جدير في مدينة مولده أن يلعب الكرة الاحترافية.
“أنا لست لاعب رابطة عنق، عندما ترتدي القميص عليك أن تفعل كل شيء لأجله”
سرعان ما آمن دي ليفيو بتاراباتوني وأسدى إليه مشاعر الوفاء والولاء التي جعلته مخلصًا لما يفعل خارج الملعب وداخله أو كما لقبه باجيو قائد اليوفتوس وقتها بالجندي الصغير، ظل دي ليفيو جنديًا وفيًا لم يغتر بأدوار البطولة أو بأضواء المجد طيلة السبع سنوات التي قضاها في يوفنتوس، فهو الآن بطل دوري الأبطال عام 1996 ثم تخرج الاتهامات عن تناول لاعبي يوفنتوس للمنشطات، يتصدى دي ليفيو لأصحاب الاتهام في وسائل الإعلام وينعتهم بالجبناء ويدافع عن زملائه ولا يترك الفرصة للتمادي في التحقيق في الأمر.
وكعادة كل الجنود الأوفياء لقائدهم، ينادي تاراباتوني القائد الأهم في حياة دي ليفيو عليه مرة أخرى ولكن تلك المرة عبر الفيولا؛ فريق فيورنتينا العدو اللدود ليوفنتوس، لا يهم فالجندي -الكبير- لا يزال صغيرًا مع مدربه ولا يرفض له طلبًا.
انتقل دي ليفيو إلى الغريم التقليدي فيورنتينا ليحظى بموسمين رائعين مع الفيولا وبعد مشاركته مع المنتخب في يورو 2000 -بقيادة تارباتوني أيضًا حينها- وكأس العالم 2002 تظهر المشاكل المالية التى اضطرت الفيولا عام 2002 لإعلان الإفلاس الرسمي والذي تبعه هبوطهم إلى الدرجة الرابعة ليبقى دي ليفيو حينها وحيدًا من الحرس القديم وكما يتحدث هو تلك الفترة: “لقد كان غريبًا أن تكون في أعلى مستوى عالمي في كأس العالم ثم بعدها بأسبوع عليك أن تلعب في حقول مجهولة، لماذا فعلت هذا؟ قلبي قال لي ذلك، أنه مازل عليّ أن أسدي أشياء لتلك المدينة الجميلة وتلك الجماهير الدافئة”.
ظل دي ليفيو متمسكًا بالفريق دافعًا إياه سنة تلو الأخرى حتى الرجوع إلى الدرجة الأولى مرة ثانية في 2004 ثم يعلن دي ليفيو بعدها بعام تعليق حذائه واعتزال لعب الكرة بعد أن أنهى مهمته كما الأساطير.
في قصيدته الشهيرة “مقابلة خاصة مع ابن نوح” يعرض الشاعر أمل دنقل منظور مختلف لقصة طوفان نوح، منظور بإمكانه أن يجعلنا نعيد تعريف بعض المفاهيم؛ فترى ابن نوح في القصيدة وإن كان هالكًا فحسبه من الكرامة أنه لم يغادر أرضه، يُقال له “انج من بلد لم تعد فيه روح” فيجيب:
طوبى لمن طعموا خبزه في الزمان الحسن..
وأداروا له الظهر يوم المحن
ولنا المجد نحن الذين وقفنا (وقد طمس الله أسماءنا)
نتحدى الدمار
فيختار -بكامل حريته- أن يتحدى الدمار ويأوي إلى جبل لا يموت -يسمونه الشعب- يأبى الفرار ليرقد فوق بقايا المدينة هادئًا بعد أن قال “لا” للسفينة وأَحَب الوطن.
الجميل في قصة دي ليفيو الذي اختار -بكامل حريته- ما يعتبره الجميع الخسارة هو خلفية هذا الاختيار الذي لا يكتفي بكونه اختيار بالتمسك والولاء ورفض المغادرة بمقدار ما هو أوسع من ذلك أصلا حيث اختار دي ليفيو الوطن نفسه.
دي ليفيو في الأصل وصل إلى فيورنتينا من صفوف يوفنتوس بعد أن قضى سبع سنوات كاملة مع السيدة العجوز والعداء بين جماهير يوفتوس والفيولا هو العداء الذي يجعلك تستغرب موقف دي ليفيو وتراه بعين تقدير أكبر.
في عام 1982 كان الصراع احتدم على لقب الكالتشيو وتساوت النقاط بين فيورنتينا ويوفنتوس قبل مباراة واحدة على النهاية حين سافر فيورنتينا لملاقاة كالياري وينجح في الشوط الثاني من إحراز هدف سرعان ما يقوم الحكم بإلغائه بينما حسم يوفنتوس لقائه مع كاتانزارو بضربة جزاء ليحصد من خلالها اللقب ليتأكد لجمهور الفيولا لقب “اللصوص” المحبب لهم إطلاقه على يوفنتوس، ثم تكتمل -السرقة- كما يصفها جمهور الفيولا بصدمة تعاقد يوفنتوس مع نجم فيورنتينا وإيطاليا الأول روبيرتو باجيو.
تلك هي العلاقة بين فيورنتينا ويوفنتوس بالبديهية الجدلية الشهيرة؛ الأغنياء السارقون في مقابل الفقراء المكافحون؛ لذلك كل العجب في قصة دي ليفيو الذي قضى سبع سنوات كاملة مع أولئك الأغنياء أن ينحاز في النكبة لمكانه وسط الفقراء، أن يتمسك بمكانه تمامًا ولا يبحث عن سفينة نجاة بنفسه، وأن يستمر في اللعب بكل الرضا وكل الإصرار وكل المقاومة.
“لو لم أكن لاعب كرة قدم لاخترت أن أكون رجل إطفاء”
اعتقد أن هذا من أغرب صور الاستنساخ المهني التي قد تراها، فبعيدًا عن أولئك الذين يقولون عن صانع الألعاب الرائع أنه لو يكن يلعب الكرة لكان صانع حلوى، أو الذين يحدثوك عن المهاجم الفذ الذي لو لم يلعب الكرة لكان صيادًا بارعًا، تجد دي ليفيو يتمنى لنفسه لو كان رجل إطفاء في تمني ينم عن التشبع الكامل بمعنى الإنقاذ والتضحية والمقاومة.
أؤمن بأن الحياة تتيح لك فرص دائمًا لا ستكشافها بطرق متنوعة، وأن القيم والعِبر يتم استنساخها وتنقلها بين كافة الأشكال، ترى الصدق في سيرة أحدهم، وتجده أوضح في فيلم سينيمائي، ويصدمك دون أن تدري في مباراة كرة قدم، وتشعر بطيفه في مقطوعة موسيقية، كما هو الحال مع التاريخ الذي تجده مترمزًا في كل شيء.
الحقيقة أن قصة دي ليفيو لا تخصه بمفرده فهي الرمزية الكروية عن التمسك والإيمان بأن الحياة وإن دارت عليك فلا تبالي، أن تستمر في الحياة تحيا وتعيش وتقاوم دون أن تفقد الأمل كما يقاوم أهلنا الفلسطينيون بكل عزة.
المقاومة التي ترى شكلها الأجمل كما دي ليفيو أن تستمر في -اللعب- وأن تُظهر ذلك للعالم كله كما تُظهر مشاهد الحرب والقتال، مثل مشهد النازح الذى استمسك بقطه الصغير معه في رحلة النزوح لأنه على قوله “بشوف الرزق على وجهه”.
المقاومة هي مشهد الأسرة التي تجتمع على طبلية الطعام كأي صباح عادي، المقاومة في مشهد شباب غزة مجتمعين لمشاهدة الكلاسيكو والمشاحنات الجماهيرية موجودة كما المعتاد، المقاومة أن تدرك أنك إنسان تمارس حياتك -كامل حياتك- أمام عدوك لأنك ببساطة في وطنك. دي ليفيو لم يكن يعلم أنه يمثل هذا الرمز لكنه مثله بالفعل، واستطاع أن يعطي لفعل في سياق ترفيهي قيمته الأعلى، وجعلنا نرى أن المجد ليس دائمًا للناجين فحتى أولئك الذين هم على وشك الهلاك كفاهم مجدًا أن يأووا إلى جبال أوطانهم فهي تعصمهم، وحسبهم من الشرف أنهم لم يبرحوا الأرض.