البالون دور 2024.. العنصرية تأكل نفسها

(فينيسوس جونيور يخسر جائزة البالون دور 2024 لصالح رودري)

خبر يمثل مفاجأة وعلامات استفهام كبيرة لكثيرٍ منا، ويمثل خبرًا عاديًا للمصوتين والصحفيين الأوروبيين وأباطرة التقييم الفني والأدبي.

“لقد اخترت رودري لأنه لاعب وسط متكامل وبسبب ابتعاده عن وسائل التواصل الاجتماعي”

هكذا صرح الصحفي الإيطالي باولو كوندو المصوت في استفتاء البالون دور لأفضل لاعب في العالم داعمًا للاعب الملتزم رودري، وهكذا ماثله زملاؤه الصحفيون لدول كرواتيا وأوكرانيا والنرويج والتشيك وألبانيا وغيرهم تحقيقًا وتأييدًا للقومية الأوروبية المنشودة.

سيخبرك دعاة التقييم اللوني بأن رونالدينهو كان أسود اللون وحاز على البالون دور، وأن من قبله قد فعلها جورج ويا، وأن الحفل يقدمه دروجبا شريك فيني في لون البشرة، والمثال الأكثر بساطة هو زملاء فينيسوس نفسه في ريال مدريد رودريجو وبيلينجهام وهما لا يتعرضان لمثل ما يتعرض له فيني كما يدّعي، وسيل لا ينقطع من المبررات السطحية.

الحقيقة أن المشكلة لا تكمن في لون بشرة فيني، بل المشكلة في أخلاقه على حسب وصفهم، المشكلة أنه يثور ويغضب، يبكي كثيرًا لكنه يتصرف أكثر بصبيانية وتهور، يخرج تمامًا خارج نموذج الأسود الذي يريدونه، وحتى على المستوى الجسدي ترى الأمر يكمن أكثر في ملامحه؛ ملامحه التي لا تتناسب مع مسطرة الرجل الأبيض للجمال؛ المقياس الذي وإن قام بمعايرة من هم سمر البشرة فبالتأكيد لن يكون فيني صاحب السمار الأشد والشفاه الغليظة والفك الكبير والجبهة الأكثر اتساعًا؛ تلك هي الحقيقة الأبسط أن من صوتوا للجائزة من صحفيين معظمهم قد تعدوا الأربعين من عمرهم وقد ترسخ في وعيهم شكل مثالي عن النجم، شكل قد يمنعهم من التصويت لفينيسوس دون حتى أن يواجهوا أنفسهم بسؤال هل يستحق أم لا، وعي استقصاء هذا الشكل الكريه من خانة النجوم ثابت كالإيمان بل وأكثر.

وهنا يكمن الأمر؛ في الأشخاص لا القوانين، في أولئك الصحفيون الذين يصوتون في الجائزة، وفي هذا الجمهور الذي يحتك مباشرة مع اللاعب في الملعب، فهم أطراف جميع القضايا العنصرية في الكرة عبر تاريخها، لكن قوانين الفيفا كعادة البنود والمواثيق فهي في غاية الوداعة.

وفقًا للمادة الرابعة من النظام الأساسي للفيفا: “التمييز من أي نوع ضد بلد أو شخص عادي أو مجموعة من الأشخاص بسبب العرق أو لون البشرة أو الأصل العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو الجنس أو الإعاقة أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الثروة أو تاريخ الميلاد أو أي وضع آخر أو ميول جنسية أو أي سبب آخر، ممنوع منعًا باتًا ويعاقب عليه بالايقاف أو الطرد.”
وفقًا للمادة 2 من نسخة العام 2017 من قانون الفيفا للانضباط: “ينطبق هذا القانون على كل مباراة ومسابقة تنظّمها الفيفا.”
بحسب المادة 58.1 من نسخة العام 2017 من قانون الفيفا للانضباط: ” أي شخص يسيء إلى كرامة شخص أو مجموعة من الأشخاص من خلال كلمات أو أعمال تمييزية أو محقّرة تتعلق بالعرق أو لون البشرة أو اللغة أو الدين أو الأصل، يجب ايقافه لمدة خمس مباريات على الأقل. علاوة على ذلك، يجب فرض حظر على دخول الملعب وغرامة لا تقل عن عشرين ألف فرانك سويسري. إذا كان مرتكب المخالفة مسؤولا، فإنّ الغرامة لا تقلّ عن 30,000 فرانك سويسري.”
وفقا للمادة 58.2 من نسخة العام 2017 من قانون الفيفا للانضباط: ” حيث يقوم أنصار فريق بخرق الفقرة الأولى أ) من المادة 58 خلال مباراة، تُفرض غرامة لا تقل عن 30,000 فرانك سويسري على الاتحاد أو النادي المعني بغض النظر عن مسألة السلوك المذنب أو الرقابة المذنبة.”

كانت تلك القوانين المعتمدة في نسخة 2017 فماذا حدث بعدها فقط في تلك الفترة الوجيزة والمتحضرة من عمر الكرة؟

في مارس 2018 وفي مباراة بين فرنسا وروسيا على الأراضي الروسية تصدح الجماهير بالهتافات العنصرية ضد بول بوجبا وعثمان ديمبلي، حينها قرّرت لجنة الانضباط التابعة للفيفا تغريم الاتحاد الروسي لكرة القدم مبلغًا قدره 30,000 فرانك سويسري، فالقانون فوق الجميع.

أثناء مباراة يوفنتوس وكالياري في موسم 2018/2019 وقع مهاجم يوفنتوس مويس كين ضحية هتافات عنصرية شديدة الوطأة من جمهور كالياري ثم قررت المحكمة التأديبية التابعة للدوري الإيطالي عدم معاقبة كالياري حيث أن الهتافات كانت نادرة.

ثم منذ بزوغ نجم فينيسوس مع ريال مدريد وعلى مدار ثلاث أو أربع سنوات يتم التنكيل بفيني في كل زيارة للميستايا أو مرور على الميتروبوليتانو إلى أن وصل الانحطاط مع جماهير اوساسونا العام الماضي حين استغلت دقيقة الصمت قبل بداية المباراة على ضحايا زلزال تركيا لتوجه الشتائم وأصوات القردة صوب فينيسوس مباشرة، الغريب أن تلك الجماهير الحقيرة هي ذاتها التي رفعت أعلام فلسطين دعمًا لهم في حربهم أثناء مباراة في الدوري الإسباني الموسم الفائت أمام غرناطة، وذلك لنتأكد تمامًا أن تلك القناعات تجاه العنصرية هي أمر راسخ في الوعي الجمعي لا يستدعي من أولئك الناس التفكير فيه؛ للدرجة التي يمكن معها أن يغيروا من قناعاتهم السياسية والإيدلوجية بل وأن يتحلوا بكامل الخلق من مواساة وتعاطف مع الضحايا والمظلومين لكن حين يتعلق الأمر بالعبيد أصحاب الأصل الإفريقي الوضيع فلا مجال للتشكك من الأساس في عدم استحقاقهم لأي شيء.

ماذا يريد الرجل الأبيض من فينيسوس وأشباهه؟
يريد أن يكونوا أناسًا صالحين؛ لا يعترضون ولا يغضبون وإن تعرضوا للسباب أو الشتم أو الضرب فليواجهوه بالابتسام وأن يمدوا يد العون لشاتميهم لنعبر عن معنى الإنسانية الحقيقي، وحينها سنرى هل نمنحك الحقوق الإنسانية التي نملكها نحن أم سنطلب منك طلبات أخرى لتخرجك من زمرة القرود.

 على كل حال الأشخاص مثل فينيسيوس أولئك الذين يثورون على المتعرضين لهم هم المادة الأكثر صلاحية لتمرير القناعة الأوضع: فينيسيوس يتحايل ليعيش دور الضحية، قناعة ستتسلل رويدًا رويدًا لتجعله لا يستحق حتى حقوق الإنسانية الأولى لأنه سيء الخلق، ولا يجب على الإعلام أن يدعم هؤلاء المشاغبين في مقابل الطلبة المهذبين أمثال رودري وتوني كروس وهاري كين.

أتاحت تلك المثالية الإعلامية المفرطة ظهور مشجعين عاديين يشاهدون الكرة التي نشاهدها ويعيشون في بلادنا لكنهم يتبنون رأي الرجل الأبيض المنافق الذي يرى أن الجائزة لا يجب أن تُمنح لمن هو سيء الأخلاق مثل فينيسوس، ويجب أن يُكافأ بها رودري صاحب الخلق الرفيع، وكأن الكرة بدأت من اليوم، وكأن سواريز لم يكن يتعدى جسديًا على من لا يروق له ولم يمنعه ذلك من الحصول على أفضل لاعب
في أوروبا البيضاء نفسها، وكأن مارادونا لم يكن لعينًا يسب ويشتم ويتشارك إشارات الأصابع البذيئة مع الجمهور والحكام واللاعبين ولم تفكر أوروبا البيضاء نفسها ولو لبرهة في نزع الأسطورية والتقديس الكروي عنه، بل وكأن الحارس الأرجنتيني الكريه المنحط أخلاقيًا مارتيينز لم يحصد جائزة أفضل حارس في العالم في الحفل ذاته من الصحفيين ذاتهم المتشدقين بالأخلاق، لكن على كل حال دعونا نستمتع بالكرة الحديثة ودعونا نرى أخلاق هالاند عندما يحصد الجائزة.

فينيسوس سيء الخلق؟ نعم
فينيسوس يستفز لاعبي وجمهور الخصم؟ نعم
فينيسوس يضرب لاعبي الخصم بالرصاص ويُمثل بجثثهم؟ ربما سيفعل
ألا يوجد عقاب لأي فعل قد ارتكبه فينيسوس أو قد يرتكبه؟ بالتأكيد نعم
فأخبرني بتعريف الفعل الذي يكون عقابه السخرية من لونك وملامحك وحرمانك من حقوقك المهنية.

“أقسم بالله العظيم أن أحترم هذه الصدفة، وأن أحترم هذه الغلطة التي جعلتني وزيرًا، وأن أُحسن أستغلالها، وأن أُحافظ مخلصًا على ثباث أقدامي وسلامة منصبي، وأن أبذل قصارى جهدى لخدمة هذا العُشب – العُشب المكافح”.

رودري في قرارة نفسه وهو يعرج على سلم البالون دور 2024.

بعد الإعلان عن الجائزة وحصول رودري عليها نشر حساب دوري أبطال أوروبا الرسمي مقطعًا احتفاءً بأفضل لاعب في العالم لتستمر رحلة الجائزة التي تأكل نفسها بنفسها بهذا المقطع الذي يشبه كثيرًا التجميعة التي يمكن أن تصنعها جماهير الأهلي احتفاءً بعيد ميلاد عمرو السولية.

الفاضح في حصول رودري على جائزة البالون دور أن جميعنا يدرك مقداره الحقيقي، لاعب ملتزم شدة الالتزام، مجتهد ومتطور واستطاع بفضل مجهوده الوصول لمستواه الحالي كأفضل محور بالعالم لكنه في أفضل الأحيان في نفس الفئة مع بوسكيتس وكانتي وسكولز ومن الممكن بيرلو، ولم ينادِ أحدٌ قط بأحقية أحدهم بالبالون دور، رودري نفسه ليس بالموهبة الساحرة التي تتيح لك تقييف المسألة كما نفعلها مع ميسي لتقول أنه لو في قمة مستواه لا يقارن بأحد، الفضيحة أن ظلم فينيسوس جاء في عام فارغ لا يوجد فيه منافسون حقيقيون قد يتسللون إلى العقل والإقناع بموهبتهم؛ ليبقى عام 2024 شاهدًا عليهم وحجة ضدهم.

لن تخرج علينا مؤسسة دولية لتعلن صراحة دعمها للعنصرية، بل ستبقى القوانين والأوراق الرسمية تصدح بالعداء الشديد لتلك الأفعال المشينة، وتبقى المشكلة في الأفراد؛ في الفكر العميق، سيفعلون الأمر، يمارسون العنصرية بكامل الحقارة والدونية، بما لا يدع مجالًا للتفسيرات، ثم سيقومون أنفسهم بتمرير الأمر من أبوابه الخلفية ليقفوا كالمتفرجين على مظلومين آخرين وهم يدافعون عن العنصرية ويقنعون بعضهم البعض بأنه يستحق ما يحدث له؛ لنأكل نفسَنا بنفسِنا، هو دين العالم الحقير وديدنه، العالم المتأنق المتحضر الداعم للإنسان، عفوًا أيها العالم نعلم تطورك، وصدقًا لا قديم يُعاد، لكن هناك الكثير والكثير من الجديد ليُذكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *